من رحمة الله تعالى بعباده أن وهبهم عمراً في حياتهم، وجعل له خاتمة ونهاية، والإنسان الواعي يشعر في نفسه أنه في سباق مع هذه النهاية من عمره، يحرص أن يقدم فيها قدراً كبيراً من العمل الصالح الذي يحتاج إليه بعد مماته يوم لقاء ربه·ويذكّر الله عباده بعظم الاستفادة من هذا العمر في قوله جلَّ وعلا: {قُل لِّعِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُواْ يُقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَيُنفِقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرّاً وَعَلانِيَةً مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لاَّ بَيْعٌ فِيهِ وَلاَخِلاَلٌ } [إبراهيم: 31]·وسيكون للعبد موقف بين يدي ربه يوم القيامة فقال جلَّ وعلا: {يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَراً وَمَا عَمِلَتْ مِن سُوَءٍ تَوَدُّ لَوْ أنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً وَيُحَذِّرُكُمُ اللّهُ نَفْسَهُ وَاللّهُ رَؤُوفُ بِالْعِبَادِ } [آل عمران: 30]·وهذا فيه إرشاد من الله لكل الناس أن ينتفعوا من أوقاتهم، ويستفيدوا من كل لحظة من لحظات حياتهم، فالإحساس بالزمن يتفاوت من شخص لآخر، كما أنه يختلف من أمة إلى أمة،من وفَّقه الله لعمل الصالحات·ولم يعرف التاريخ البشري أمة تقدر الوقت، وتعرف قدر الزمن كهذه الأمة المحمدية· وأخبر – سبحانه – عن تسجيل أعمال الخلائق فذكر أن ذلك يتناول جميع أعمارهم {وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِراً وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً } [الكهف: 49]· وأخبر – سبحانه – عن حسابه لخلقه على إعمالهم التي عملوها في أعمارهم، فذكر أن ذلك يتم بميزان ذري لا تفوته الخردلة، ولا تسقط منه الذرة فقال سبحانه: {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ } [الأنبياء: 47]·بل لقد أخبرنا ربنا جلَّ جلاله بخبر عظيم عن طريقة الحساب على الزمن الماضي، والعمر المنصرم في آيات بيِِّنات تتصدع لسماعها القلوب في قوله سبحانه: {قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ (112) قَالُوا لَبِثْنَا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَاسْأَلْ الْعَادِّينَ(113) قَالَ إِن لَّبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلاً لَّوْ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ(114) أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ(115) فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ }·انظروا وتأملوا إلى هذه الدقة، والعناية بالعمر والزمن، التي أخبر الله بها عباده، ليتعلموا منها دروس الحساب، الذي يضبط حياتهم، ويحفظ أوقاتهم ويرفع شأنهم، ويجعلهم أمة وسطاً شهداء على الناس·إن الدقائق والثواني في أعمار الأمم، وفي حياة الأفراد، لها وزن وحساب والساعات الطويلة، ليست في حقيقتها سوى دقائق، وثوان، وضياع الثواني من العمر هو في حقيقته ضياع لتلك الساعات التي ينقضي بمرورها عمر الإنسان، فالمسلم يعمر وقته وحياته بطاعة الله في كل أحواله حتى لا يكون عمره حجة عليه يوم القيامة·غفلته من نعم الله :وقد نبَّه النبي صلى الله عليه وسلم إلى غفلة كثير من الناس عن ما وهبهم الله من نعمة العافية، ونعمة الوقت، فقال عليه الصلاة والسلام فيما رواه البخاري من حديث ابن عباس رضي الله عنهما:“نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس الصحة والفراغ”، فمن استعمل صحته وفراغه في طاعة الله فهو المغبوط، ومن استعملها في معصية الله فهو المعنون·فكل إنسان سيواجه بحصيلة عمله، إن خيراً فخير وإن شراً فشر قال سبحانه وتعالى: {فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ(7) وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ} [الزلزلة: 7 - 8]· وقال تعالى: {وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِراً وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً} [الكهف: 49]· فالاستزادة من عمل الخير في حال الصحة والفراغ توفيق عظيم من الله يمن به على من يشاء من عباده وهذا ما أمر الله به – جلَّ وعلا – نبيه محمداً بقوله صلى الله عليه وسلم:{فَإِذَا فَرَغْتَ فَانصَبْ (7) وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ} [الشرح: 7 - 8]· أي في حال فراغك اتعب نفسك من عمل الخير عبادة وتقرباً إلى ربك، وقال تعالى: {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} [الحجر: 99]· أي أجعل حياتك كلها في عبادة الله كما قال جلَّ ذكره: {قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الأنعام: 162]·
وقد أمر الله عباده بالمسابقة في عمل الخير تنافساً في ميادين الحصول على درجات القرب منه والزلفى لديه فقال: تبارك اسمه: {وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُواْ الْخَيْرَاتِ أَيْنَ مَا تَكُونُواْ يَأْتِ بِكُمُ اللّهُ جَمِيعاً إِنَّ اللّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [البقرة: 148]·هذا ما وجه الله به عباده إلى اغتنام الأوقات واللحظات من العمر الذي يسير بالإنسان سيراً إلى خاتمته في الدنيا، وكم من الساعات والأيام والسنين، تضيع في حياة الناس في فضول الكلام، وضروب اللهو واللغو وفي النوم والكسل، وأعداء الإسلام يسهرون ويكدحون في كل لحظة من أجل تحصيل أسباب القوة، ومن أجل فرض سيطرتهم على الناس،
ويحاسبون أنفسهم على الدقائق والثواني، مخافة أن تمضي دون إنتاج·إننا مأمورون أن نحافظ على أوقاتنا ونستثمر فراغنا، وأن نستشعر ذلك في واقعنا كما جاء في نصوص ديننا وفي سيرة أسلافنا، وفي شعائر ديننا الحنيف، ومن أعظمها المحافظة على الصلوات الخمس في أوقاتها، فبها يتجدد إيمان المسلم دائماً، وتقوى صلته بربه، الذي وعد الطائعين بثوابه، إذا هم حافظوا عليها·وبهذه التربية الحكيمة، وبهذا الحساب الدقيق لمعرفة قدر الزمن حافظ السلف على دينهم، وأقاموا أحكام شريعتهم وأسسوا للدنيا حضارة شامخة لا تصلها أي حضارة، وقدموا للمسلمين نماذج صالحة، وقدوات لم يعرفها تاريخ البشرية ففازوا بالحسنيين، عزة الدنيا وسعادة الآخرة {أُولَـئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَـئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ } [البقرة: 177]·
أهمية حفظ الوقت :إن حفظ الوقت مما أمر الله به وحث عليه فإذا تربى الصغير على حفظ وقته بما ينفعه ويفيده
حفظه الله ووفقه في حياته، وأولياء الأمور يتعبدون الله بحسن تربية أولادهم والمحافظة على أوقاتهم فيما ينفعهم ويفيدهم، سواء كانوا صغاراً أم كباراً،
ومسؤولية الآباء والأمهات تزداد في العناية بأولادهم خاصة في أوقات فراغهم، فالشباب اليوم بحاجة إلى توجيه سديد وإرشاد سليم يأخذ بعقولهم إلى الرشد والصواب فهم يواجهون اليوم من آفات الفراغ (شهوات وشبهات) شأنها أن تصرف قلوبهم عن الهدى فيقعون في المحذور الشرعي، فأصحاب الفتن والشهوات لا يتسلطون غالباً إلا على عقول الشباب·والأبناء والبنات أحق بالرعاية والاهتمام وشغل أوقاتهم بكل نافع ومفيد لنيشئوا نشأة صالحة تكون فيها العاقبة الحسنى لأنفسهم ولوالديهم، وقال قد الله تعالى: {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا} [طه: 132]· وقال سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً } [التحريم:6]
نقص العمر وزيادة العمل :ثم تحدث الشيخ سعد بن عبدالله السبر إمام وخطيب جامع الشيخ عبدالله بن جارالله بالرياض الداعية المعروف فقال: إن وقت المرء هو عمره الذي سوف يسأل منه يوم القيامة يقول صلى الله عليه وسلم: “لن تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن
أربع وذكر منها شبابه فيما أبلاه وعمره فيما أفناه”إذاً فوقت المرء هو عمره وهو مسؤول عنه يوم القيامة فليعدَّ للسؤال جواباً وللجواب صواباً
ولأهمية الوقت فقد أقسم الله به في عدد من سور القرآن الكريم: {وَالْفَجْرِ} [الفجر: 1]·{وَالضُّحَى } [الضحى: 1]· {وَالْعَصْرِ} [العصر: 1]· {وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى{الليل: 1]· وهذا كله يدل على أهمية الوقت في حياة المسلم وهي رسالة صريحة من الله لعباده بضرورة استثمار هذا الوقت بكل عمل صالح نافع له يوم يلقى الله عزَّ وجلَّ·وكان أحد السلف يقول: “ما ندمت على شيء أكثر من ندمي على يوم نقص فهي عمري ولم يزد عملي”وليحذر المسلم التسويف بالعمل فإن هذا الأمر مهلة العبد ويعلم أن الموت لن يستأذنه، بل ربما جاءه على غرة ولذا عليه أخذ الحذر والحيطة {جَاء أَجَلُهُمْ لاَ
يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ } [الأعراف: 34]· فحري بالمسلم أن يغتنم وقته في طاعة الله ولا أعني بذلك الانقطاع عن مصالح الدنيا كلا، بل يكون
دائماً ذاكراً لله عزَّ وجلَّ وهو في عمله وهذا يدعوه للإخلاص والحذر مما يغضب الله عزَّ وجلَّ، وهذا هو محض العبادة وعليه أن يتذكر الموت دائماً وأن يتهم نفسه دائماً بالتقصير ولا يغتر بعمله وإن كثر فإن الذنوب أكثر والاغترار بالعمل هلاك العبد والله المستعان·
التفريط ثمرته الحسرة :يقول الشاعر: والوقت أثمن ما عنيت بحفظه *** وأراه أثمن ما عليك يضيع إن وقت المرء هو عمره فإذا ضيّع الوقت فقد ضيّع عمره ونحن جميعاً نعلم أننا سوف نُسأل عن هذه الأوقات يوم القيامة “فلن تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن أربع ومنها هذا الوقت”، وهذا ثابت في الصحاح عن النبي صل الله عليه وسلم، ولذا ينبغي للمسلم أن يحسن استثمار وقته في طاعة الله عزَّ وجلَّ ما دام بإمكانه ذلك فربما شغلته شواغل من عمل أو مرض أو هرم والتفريط ثمرته الحسرة والندامة·