يقول الإمام أبو عمر يوسف بن عبد البر النمري القرطبي (ت463هـ) في شرح حديث تعاهد القرآن الذي رواه الإمام مالك عن نافع عن عبد الله بن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إنما مثل صاحب القرآن كمثل صاحب الإبل المعلقة، إن عاهد عليها أمسكها، وإن أطلقها ذهبت».
يقول رحمه الله: في هذا الحديث التعاهد للقرآن ودرسه والقيام به، وفيه الإخبار أنه يذهب عن صاحبه وينساه إن لم يتعاهد عليه ويقرأه ويدمن تلاوته، وقد جاء عنه صلى الله عليه وسلم وعيد شديد فيمن حفظ القرآن ثم نسيه، كل ذلك حَضٌّ منه على حفظه والقيام به، حدّثنا عبد الوارث بن سفيان وسعيد بن نصر قالا: حدّثنا قاسم بن أصبغ قال: حدّثنا عبد الله بن روح قال: حدّثنا عثمان بن عمر بن فارس، أخبرنا شعبة، عن يزيد بن أبي زياد قال: سمعت رجلا من أهل الجزيرة يقال له عيسى يحدث عن سعد بن عبادة، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من تعلم القرآن ثم نسيه لقي الله يوم القيامة وهو أجذم».
معناه عندي منقطع الحجة والله أعلم، وذكره ابن أبي شيبة عن ابن فضل، عن يزيد، عن أبي زياد، عن عيسى بن فائد قال: حدّثني فلان عن سعد بن عبادة سمعه من النبي صلى الله عليه وسلم.
وقال ابن عيينة في معنى حديث سعد بن عبادة هذا وما كان مثله: إن ذلك في ترك القرآن وترك العمل بما فيه، وإن النسيان أريد به ههنا الترك، نحو قوله تعالى: (وَقِيلَ الْيَوْمَ نَنْسَاكُمْ كَمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا)، قال: وليس من اشتهى حفظه وتفلّت منه بناسٍ له إذا كان يحل حلاله ويحرم حرامه؛ لأن هذا ليس بناسٍ له، قال: ولو كان كذلك ما نسي النبي عليه السلام منه شيئا وقد نسي وقال: ذكرني هذا آية نسيتها، وقال الله عز وجل: (سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسَى إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ)، فلم يكن الله لينسي نبيه عليه السلام والناس كما يقول هؤلاء الجُهّال. حدّثنا إبراهيم بن شاكر وسعيد بن نصر قالا: حدثنا عبد الله بن عثمان، حدّثنا سعيد بن معاذ، حدّثنا ابن أبي مريم، حدّثنا نعيم بن حمّاد عن ابن عيينة فذكره.
وكان الصحابة رضي الله عنهم وهم الذين خُوطبوا بهذا الخطاب، لم يكن منهم من يحفظ القرآن كله ويكمله على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا قليل، منهم: أبي بن كعب، وزيد بن ثابت، ومعاذ بن جبل، وأبو زيد الأنصاري، وعبد الله بن مسعود، وكلهم كان يقف على معانيه ومعاني ما حفظ منه، ويعرف تأويله، ويحفظ أحكامه، وربما عرف العارف منهم أحكاماً من القرآن كثيرة وهو لم يحفظ سورها، قال حذيفة بن اليمان: «تعلمنا الإيمان قبل أن نتعلم القرآن، وسيأتي قوم في آخر الزمان يتعلمون القرآن قبل الإيمان».
ولا خلاف بين العلماء في تأويل قول الله عز وجل: (يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ) أي يعملون به حق عمله، ويتبعونه حقّ اتباعه، قال عكرمة: «ألم تستمع إلى قول الله عز وجل: (وَالْقَمَرِ إِذَا تَلاهَا) أي تبعها».
وفي هذا الحديث دليل على أن من لم يتعاهد علمه ذهب عنه أي من كان؛ لأن علمهم كان ذلك الوقت القرآن لا غير، وإذا كان القرآن الميسر للذكر يذهب إن لم يتعاهد، فما ظنك بغيره من العلوم المعهودة! وخير العلوم ما ضبط أصله، واستذكر فرعه، وقاد إلى الله تعالى، ودلّ على ما يرضاه.