عندمـا يعيشُ المرءُ ردحاً من الزمنِ في مكانٍ اختارهُ بمليء إرادته , فازدحم المكانُ
بأناسٍ أحبوهُ بكلِّ صدق , فبادلهم الحُبَّ بالوفاءْ , وراحَ يُقدِّمُ لهم كُلَّ ما بوسعهِ
طمعاً بردِّ الدينِ الذي طوَّقوا به قلبه , فأمضى الأيام والأشهر والسنين حاملاً هذا
الدينُ رُغم ثقله , إلا أنه اختار أن يجعلَ منهُ تاجاً يُزيِّنُ به جبينَ ما تبقى في هذه
الحياة من حب صادق لا تشوبهُ الأنانيَّةُ وحب الذات .
كانوا بُسطَاءَ جـداً
فقط لأنهم استطاعوا التخلص مما علق بإنسانيَّتِهم من شوائب الحياه , من كذبٍ
وخداعٍ وأنانيةٍ ومصالحَ تُغلفها الكلماتُ والابتساماتُ الزائفه .
كانوا بريئُونَ جداً .. ومن فرط براءَتهم لتكادُ تجزمُ بأنهم مُجردُ أطفالْ , فلا كبرياءَ
مُزيَّفٍ يمنعهم من البكاء .. ولا خجلٍ مُصطنعٍ يحرِِّمُ عليهمُ الضحك
فتجدُهُمْ يضحكون لأتفهِ الأسباب .. لمُجرَّدِ الضَّحِكْ , أو ربما لرسمِ الابتسامةِ على
ثغرك حينَ يرون ملامحَ الحزنِ والقهرِ والألم , وقد ارتسمت على وجهك .
تتعالى ضحكاتهم .. ويرتفُعُ صوت ضَجيجِهم حتى يُغطِّي جميعَ مساحاتِ السّكُون
في أُذنيك , وكأنك بهم وقد استحلُّوا حياتك , واستباحوا كل شيء منك .. وفيك
بلا استئذان ..!!
حتى لحظاتِ الهدوءِ التي كانت تهِبُها لكَ الحياة , بعد موجةٍ عاصفةٍ من الحُزنِ
والألم والفجيعة , قد استحلُّوها , أو ربما أنت من قُمتَ بوهبها لهم , دون أن تشعُر
تُحاولُ تفسيرَ ما يحدث , وإيجادُ إجاباتٍ مٌقنعةٍ .. لما حدث , ولكنكَ تتفاجأ بأنهم
لم يُمهِلوكَ الوقت للتفكير , حينَ تجدُ بأنهم قد انتهوا من تشييد صروح الحب
في أعماقِكْ . عندها فقط .. تكتشفُ بأنهم قد استعمروكَ حتى من الداخل أيضاً ..!!
مُجرَّدُ غُرَبَـاءْ .!!
مُجرَّدُ أسماءٍ وخيالاتٍ وصورٍ رمزيةٍ .. باتت الآن تُبحرُ في مخيلتك وتسكنُ أعماقك
كانوا مُجرَّد ملامحَ أنت من قمت برسمها .. فاستقرت في أعماقك , واستأثرت بجُلِّ
ساعاتِ يومك ..!!
بتَّ تشتاقُ لرؤيتهم , وتأنسُ لوجودهم , وتحزنُ لفقدهم , وتتألمُ لألمهم , فباتوا
قطعةً منك .. وجزءاً فيك .. وطيوفاً تسكنك .
تسمعُ ضحكاتِهمْ , وأنَّاتِ قلوبِهمْ , تسمعُ صرخاتِهمْ , وصيحاتِ غضبِهمْ , تسمعُ
صوت أنفَاسِهِم .. مُنهكةٌ أحياناً .. ومتسارعةٌ في أحايينَ أُخرَى .
تسمعُ خفقات قلوبِهم وهي ترحِّبُ بمقدمِكْ , وتسمعُ صَيْحَاتَ غضبِهم , عاتبةً
لتغيُّبِكْ
ضجيجٌ يزاحمُكَ حتى في أحلامك , ويُسلِّيكَ بيقْضَتِكَ عندما تكشِّرُ لك الأيامُ عن أنيابها
وتلسعُ جانبيكَ بسياطها , وبلا شعورٍ منك , تجدُ نفسكَ وقد أتيتَ ركضاً لترتمي في
أحضانهم . لتيقنٌكَ بأنها ستتسِعُ لك , حين ضاقت بك الأرضُ بما رحُبت .
تتأملهم بعينِ الغِبْطَةِ والسُّرُورْ .. وتشكُرُهُم بدعوةٍ خالصةٍ في ظهرِ الغَيبْ
.( الله يوَفِّقْهُمْ ويسْعِدْهُمْ ).
دعوةٌ تردِّدُها تحت جنح الظلام حين يغلبك النعاس .. وحينَ تضعُ رأسكَ فوق
وسادتُكْ , تلكَ الوسادةُ التي باتت كنذيرٍ يُنذركَ كل ليلةٍ بانتهاء فصلٌ آخر من فصولِ
حياتكَ مَعَهُمْ . فتغفوا عيناكَ وسؤالٌ أوحدٌ اعتدتَ أن يُعانقَ شفتيكَ في هذا الوقت
.( مَتَى يأْتِيْ غَـدَاً ..؟؟ ).
يا لهُ من سؤالٍ طفوليٍّ .. أجدُني مُتلهفاً لترديدهِ هذا المساء , ومُتشوقاً لتلك
الأحلامُ الورديةُ التي كانت تداعبُ مُخيلتي - حين أغفو كإغفاءةِ طفلٍ أنهكه
كثرةُ اللعبْ - لما سيحدثُ غداً
آهـٍ كم أحببتَهم .. وكم أُحبُهم .. وكم أشتاقُ لمعانقةِ أحرُفِهم من جديد ..!!
نعم .. فقط أحرُفُهُم , لأنَّهم يعيشُونَ في عالمٍ آخر , عالمُ الأرواحِ وبراءةُ الإنسانيَّه
عالمُ الأقلامُ والأفكارُ والمشاعِرُ الصَّادقه , عالمُ المنتدياتْْ حيثُ تتوارى النفوسُ
بأحقادها , وتتلاشى الأجسادُ بشهواتها , وتختفي الوجوهُ بأقنعتها المزيفة
وابتساماتِها الصَّفرَاءْ .
عالمٌ آخر , بعيدٌ عن سلطويةُ الواقعِ , وقسوةُ الحياةِ , وأضغانِ البَشَرْ . بعيدٌ عن
هذا العالمُ الذي تلوَّثَ ساكِنُوهُ عقليَّاً , ونفسِيَّاً , وجسَدِيَّا
*********************************
يا لهُ من مكانٍ جميل , ويا لهم من إخوةٌ رائعين . تجرَّدوا من أنانيَّتِهِم وأَحْقَادِهِم
وأضْغَانِهِم , فتجلَّتْ طهارةُ نُفُوسِهِم . تجرَّدوا من حدودِهِمِ الجغرافيةِ والعرقية
والجنسيه , فتجلَّتْ إنسانيَتَهُم بأروعِ صُوَرِهَا . تجرَّدوا من أجسادهم
وأقنعتهم المُزيَّفه فتجلَّتْ أرواحُهمُ الطاهرةُ النقية .. فآثروا العيشَ بها .
نعم كانَ عالَمٌ جميل , وكانوا أصدقاء رائعين .
ضحكنا كثيراً , فتعلمنا كيف نسخرُ من هذه الحياه . وبكينا كثيراً , فتعلمنا كيف نبكي
بلا دموع , كي لا نُغرقَ تلك الإبتسامةُ التي رسمناها فوق شفاهنـا . عانينا كثيراً
فتعلمنا بأنَّ السعادةَ شجرةٌ لا تموتُ عطشاً , لمُجرَّدِ صخرةٍ إعترضت طريق جذورِها
للوصولِ إلى الماء .!!
تعلمتُ الكثير منهم , فتحملتُ الكثير من أجلِهِم , حتى ظننتُ لفرطِ سعادتي , بأننا
مُخلَّدون في هذا المكانْ ! حتى تفاجأتُ برحيلِهم , وعزمُ من تبقى منهُمُ على الرَّحِيْلْ
حزنتُ كثيراً .. وتألمتُ أكْثَرْ
حاولتُ مراراً أن أضحكَ كي أسخرَ من هذه الحياه , رغبةً في تطبيقِ ما تعلَّمنَاه
ولكنَّنِي افتقدتُ ضَجيجَهم , واشتقتُ لصَخَبِهِمْ فاخترتُ أن أبكي بلا دموع كي
لا أُغرقَ تلك الإبتسامةُ التي رسموها فوق ثغري . فتَرَاءَتْ ملامحُ من قاموا برسْمِهَا
فرأيتُهَا وقد آثرَتِ الرَّحِيلَ معَهُمْ .!!
نعم إنها سنةُ الحياة , وهذا ما عهدناهُ منها . فكلما بنينا صرحاً من صروح الحُب
تبدَّلت فجأةً لتحوِّلهُ إلى ضريحٍ يقبعُ في أعْمَاقِنَا , وأطلالٍ نتشوَّقُ لزيارتها كُلَّ حين
لنبكيها حيناً , ونبتسمَ حيناً آخر . نزورُها لنجدَ أنفُسَنَا وقد خلا بنا المكان , وهدأ
الضَّجِيْجُ الذي كُنَّا نعشقُهُ , فأصبحَ ضريحاً يَعُجُّ بالتماثيل . عندها فقط , يحقُّ لنا
أن نرفعَ أكُفَّنَا - طالما بقِيَتْ لدينا القدرةُ على ذلك - لنلوِّحَ بها مودِّعين ما تبقى من
ضجيجهمُ العذبُ , وأصداءِ ضحكاتِهمُ التي خلَّفوها ورَاءَهُمْ . وكي لا نُغرقَ ابتساماتُنا
التي رسموها فوق شفاهُنا , فلنحدِّقُ في السماء , ولننقش فوق وسائدُنَا هذه العِبَارَهْ
*( لا تَعْشَقَ الغُرَبَاءْ .. فَإنَّهُمْ رَاحِلُونْ )*
ولندْعُوا لَهُم بهذه الدَّعوَهْ
.( الله يوَفِّقْهُمْ ويسْعِدْهُمْ ).
دعوةٌ خالصةٌ في ظهرِ الغَيبِ وتحتَ جُنحِ الظَّلامْ , حين يغلِبُنَا النُعَاسْ
ولـنَـبْـتَـسِـمْ
فحتمــاً
.
.
.
سَيَحِينُ دَوْرُنَا .. . ذَاتَ مَسَــاء
وأود ان أسمع رايكم بهذا