من منا لا يريد أن يعيش في الدنيا أكثر من مرَّة ؟ لا لجمالها ، ولا
لنعيمها ، ولا لما فيها من متع وشهوات ، فما عند الله لعبده المؤمن يوم
القيامة من الخير ، خير له مما يطمع في تحصيل أضعاف أضعافه في الدنيا التي
لا يساوي نعيمها في الآخرة مثقال خردل في النعيم المقيم والخير العميم في
جنات النعيم ، وإنما ليستكثر من الحسنات والباقيات الصالحات التي ينتفع
بها يوم لقاء ربه على تلك العرصات في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة !
والمصيبة الرهيبة أننا لن نعيش في الدنيا إلا مرَّة واحدة ، إذا ذهبت لم تحصل مرة أخرى ، وتلك ـ والله ـ داهية كبرى !
فرصة واحدة يشتري فيها العبد نفسه من ربه ، فينجو ، وإلا فالنار .. النار ، وبئس القرار !
ولكن ، هل تعلمون أن من الناس ناساً يعيشون مرَّات وكرات ؟!!!!
يعيشون في مصرهم وغير مصرهم ..
يحيون في عصرهم وفي غير عصرهم ..
وكلما مرَّ الزمان عليهم ، طال عمرهم أكثر ، وغنموا من الأعمال أكثر وأكثر ..
تقول : يا ليتني كنت منهم فأفوز فوزاً عظيماً !!
فهل تعلم ؛ أنه يمكنك أن تكون منهم ـ إذا شئت ـ وأدركتك رحمة أرحم الراحمين !
إنهم الدعاة إلى الله تعالى ..
يموت الناس بحسناتهم معهم ، وتبقى حسنات الدعاة إلى الله تعالى من بعدهم ،
فتأتيهم في قبورهم وهم في أمسِّ الحاجة إليها وأعظم الرغبة فيها ، فيغنمون
من الحسنات بعد مماتهم أكثر مما نالوا منها في حياتهم !
فعن أبي مالك الأشجعي عن أبيه ـ( ـ قال : قال رسول الله ـ ( :" من علَّم آية من كتاب الله عز وجل ، كان له ثوابها ما تليت " 1
فهم ينشرون الخير للغير ، ويعلمون الناس المعروف ، ويدلونهم على الأعمال
الصالحات ، فيفعلها الناس إقتداء بهم ، وتأسياً بفعلهم ، وتعلماً منهم ،
وللدعاة ـ بفضل ربهم عليهم ـ صورة طبق الأصل من ذلك الأجر وتلك الخيرات
والأعمال الصالحات .
فعن انس بن مالك ـ ( ـ عن رسول الله ـ ( ـ أنه قال :" أيُّما دَاع دعا إلى
ضلالةٍ فاَتُبعَ ، فإنَّ لهُ مِثلَ أوزارِ من اتَّبعَهُ ولا يَنقُصُ من
أوزارهم شيئاً ، و أيُّما دَاع دعا إلى هدى فاَتُبعَ ، فإنَّ لهُ مِثلَ
أجورِ من اتَّبعَهُ ولا يَنقُصُ من أجُورهم شيئاً " 2
فتمتد أعمارهم لسنين طويلة ، وإن دفنوا في التراب ، فالغاية من الحياة ؛
الاستكثار من الحسنات ، فها هي تأتيهم في قبورهم ، فمن مثلهم ؟!
بل ويعيشون في مصرهم ، وفي غير مصرهم بانتشار الخير الذي علموه إلى
البلدان وفي كل مكان ، فتمتد حسناتهم إلى حيث البقاع التي لم تطأها
أقدامهم ولم تدخلها أبدانهم ، فيأتون بالناس في موازين أعمالهم يوم لقاء
ربهم ، وذلك الفوز المبين !
فعن سهل بن معاذ بن أنس عن أبيه ـ رضي الله عنهم ـ أنَّ النبيَّ ـ( ـ قال
:" من علَّم علماً ؛ فله أجرُ مَن عمِلَ به ، لا ينقُصُ من أجرِ العاملِ "
3
وما من يوم ينشق فجره ويبزغ نوره إلا وفضل الصحابة يعظم ، وأجرهم يكبر ،
لأنهم نقلة الدين إلينا من خير المرسلينا ـ صلى الله عليه وسلم ، فما من
طائع في مشرق الأرض أو مغربها ، إلا وكان ذلك زيادة في أجر من نقل هذا
العلم ، وبين الناقل والعامل مئات من السنين ، وآلاف من المسافات ، فهل
أدركت كيف تعيش ؟! ولماذا تحيى ؟! وكيف تعيش أكثر من مرة ؟!
فعن أبي قتادة ـ ( ـ قال : قال رسول الله ـ ( :" خيرُ ما يُخَلِّفُ
الرَّجلُ مِن بعدِهِ ثلاثٌ : ولدٌ صالحٌ يدعُو لهُ ، وصدقَةٌ تجري
يبلُغُهُ أجرُها ، وعلمٌ يُعملُ به مِن بعدِهِ " 4
وعن أبي أمامة ـ ( ـ قال : سمعت رسول الله ـ ( ـ يقول :" أربعةٌ تجري
عليهم أجورهم بعدَ الموت : رجلٌ مات مُرابطاً في سبيلِ الله ، ورجلٌ
علَّمَ علماً ، فأجرُه يَجري عليه ما عُمِلَ به ، ورجلٌ أجرى صدقةً ،
فأجرُها له ما جَرَت ، ورجلٌ ترك ولداً صالحاً يَدعو له "
وصدق الله : ] ومن أحسن قولا ممن دعا إلى الله وعمل صالحا وقال إنني من المسلمين ] 5
-----------------------
1 أخرجه أبو سهل القطان في حديثه عن شيوخه ، انظر : السلسلة الصحيحة (3/323) (1335) .
2 صحيح سنن ابن ماجه (1/41) (171) .
3 صحيح سنن ابن ماجه (1/46) (196 ) .
2 صحيح سنن ابن ماجه (1/46) (197 ) .
5 فصلت : 33